ما من شك في أن المنطقة شهدت في الآونة الاخيرة تقدماً لافتاً لقوى الردّة المضادة للثورات، وهي ليست «ثورات مضادة»، حسب التعبير الدارج، لأن لا شيء فيها من التغيير أو الثورة، إنما هي ردة ضد هذا وتلك. يتمثل المشهد بإعادة انتاج عدد من الأنظمة العربية، بعد التضحية بالحاكم الفرد فيها، يقابل ذلك تعزيز طابعها الاستبدادي والتسلطي، وتمكين مرتكزاتها العسكرية والامنية، وتنمية توجهاتها النيولبرالية، وهي أحد الأسباب الرئيسة للبطالة والفساد والفروق المناطقية والطبقية. تحقق ذلك بمزيج من التدخل الإقليمي (الأنظمة الاستبدادية النفطية في السعودية وقطر وتركيا وإيران على ما بينها من تنافس وتبادل أدوار) وفي ظل أحدية «الحرب الكونية ضد الإرهاب» بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلال العمليات الجراحية التي أجرتها الحروب الأهلية في جسم الثورة والمجتمع (كما في الحالة السورية خصوصاً). يستدعي هذا بذاته ورشة تفكير وتحليل نقدي. تفتح «بدايات» صفحاتها، كما هي مفتوحة دائماً، لمثل هذه الجهود وتلك النتاجات.
يهمنا هنا إلقاء بعض الأضواء على المستجدّ الأكبر في الردة المضادة للثورات: الحركات الجهادية-التكفيرية.
١. إن نقطة الانطلاق لأي بحث في دور الدين والمقدس والعنف في الدولة والسياسة تستدعي الاعتراف بالحضور الدائم للعامل الديني في الحياة البشرية والالتفات إلى أنه يطفو إلى السطح، ويحتلّ فاعلية وزخماً متجددين، ويتلبّس جماعات وقوى، إبان الحروب والأزمات والنكبات الكبرى والكوارث الطبيعية. والذين خبروا الحروب اللبنانية قد تعرّفوا إلى ظاهرة التضخم الديني الذي فخّخ الطائفية السياسية والاجتماعية بالفقهي والمقدّس بما في ذلك الدور المتزايد لرجال وعلماء الدين في الحياة العامة وفي الدولة والسياسة.
٢. في السجال بين تبرئة الإسلام من فكر التنظيمات الجهادية-التكفيرية وأفعالها وبين تحميله كل تبعاتها، نودّ نقل النقاش إلى مجال آخر، إلى التأمل في سؤال: ما الذي يدفع مجموعات من العرب والمسلمين، إلى أن تتبنى مثل هذا التفسير الحرفي، والحربي، والعدمي، والتكفيري، والاقتصاصي للإسلام؟ ولقطع الطريق على أي حصرية، ليست الجهادية ولا التكفيرية ولا النزعات المهدوية، والخلاصية مخصوصة بدين معيّن من الأديان التوحيدية أو بمذهب معيّن من مذاهب الإسلام. وإنما هي ابنة فِعل زمان معين في ظروف اجتماعية-سياسية معنية في بيئات مجتمعية معينة. فعلى سبيل التمثيل لا الحصر، يتبنى «أنصار الله» (الحوثيون)، الشيعيون الإثنا عشريون في اليمن، تأويلات للإسلام ليست تختلف كثيراً عن الجهادية-التكفيرية السنّية.
٣. على عكس النظريات القائلة بأن نمو الحركات الجهادية-التكفيرية هو وليد الفوضى التي أحدثتها الثورات، الحقيقة أنها جهيضة قمع الأنظمة الاستبدادية وإحباط الآمال التي أنعشتها الثورات، ووأد محاولات التسوية، وتهميش القوى الاجتماعية والعُمرية الحيّة التي قذفتها الثورات إلى مقدمة الأحداث.
قامت الثورات العربية من أجل تغيير الدولة العربية لتصير أكثر إنسجاماً مع العصر ولتحقيق الديمقراطية (بمعناها الأبرز: المساواة السياسية والقانونية بين مواطنين) وتداول السلطة وتجسير الفوارق الاجتماعية والمناطقية وإعتماد عدالة اجتماعية توفر بالحد الأدنى من الحياة الكريمة. وفي النقيض من ذلك، يسعى الجهاديون التكفيريون إلى تدمير الدولة العربية ذاتها، وقد أدانوها بالخروج والجاهلية، وإقامة دولة دينية خلافية – الحاكمية – ينصّب فيها افراد أنفسهم ٌ«امراء» و«خلفاء» لا يزعمون تمثيل الشريعة وحسب، بل حكم الله على الأرض أيضاً، ويفرضون البيعة بالسيف. والنصل الامضى لحكمهم هو الاقتصاص من المجتمع لعدم رضوخه لتحليلهم والتحريم، والتحريم خصوصاً، لأن تحليلهم هو الهَوَسُ الجنسي المريض والسبي والنهب وتجارة الرقيق وقطع الرؤوس. إن الجهادية-التكفيرية تقتصّ من المجتمع على غيريته، تبدأ بالعداء الذكوري للنساء ولا تنتهي الا بأهل السنة أنفسهم، عندما يرتدّ العنف على ذاته، على اعتبارهم الاقربين الأوْلى لا بالمعروف، وإنما الأمر بالمعروف، بعد أن تمرّ على المغايرين دينياً ومذهبياً، من مسيحيين وإزيدييين وشيعة وعلويين واسماعيليين ودروز وسواهم.
وهذه الهمجية تقطع الرؤوس بالسيف لكنها تقاتل بأحدث الأسلحة والآلات، وقد تدربّت عليها على يد الاستخبارات الاميركية والباكستانية في افغانستان وفي حروب الشيشان وفي حروب العراق وسورية. وترتكز قوتها الاقتصادية على المال النفطي تحديداً، يتدفق عليها من أنظمة دول الاستبداد في الجزيرة والخليج، وخصوصاً السعودية وقطر، أو من عائدات وإتاوات آبار النفط التي تسيطر عليها، حتى لا نتحدث عن تبرعات سخية من رجال أعمال من مختلف الانتماءات والمواقع.
٤. داعش، المتحدرة من «تنظيم القاعدة»، هي أولاً نتاج الغزو والاحتلال الاميركي الأطلسي للعراق وتدمير الدولة العراقية وتسريح جيشها. وقد تغذّت من تجريم الجماعة السنّية بجريرة نظام صدام حسين الدكتاتوري. وقد استدرجت الحرب العراقية الآلاف المؤلفة من الجهاديين عبر الحدود السورية وحولت عشائر برمّتها إلى جيوش خاصة، وشيوخها إلى مقاولي تهريب وحروب.
نجح الاحتلال الأميركي في آخر ايامه في شراء ولاء عشائر مسلحة قاتلت في صفوف تنظيم القاعدة أو إلى جانبه، انتظمت في «الصحوات» (١٢٠ ألف مسلّح). غير أن الانسحاب الأميركي تم بناءً على تفاهم مع إيران قضى بتسليم الحكم إلى تحالف أحزاب شيعية وكردية، بزعامة نوري المالكي على حساب خيار آخر دعمته أنظمة سورية والعربية السعودية وتركيا، قضى برئاسة اياد علاوي لمجلس الوزراء، يُشرك قوى أكثر تعبيراً عن الجماعة السنّية في العملية السياسية. إستأثر المالكي بولايتين احتكر خلالهما منصبي وزير الدفاع والداخلية، وسرّح عدداً من خيرة ضباط العراق لأسباب مذهبية، وعاث في القوات المسلّحة فساداً واستخدم قانوني مكافحة الارهاب واجتثاث البعث ضد خصومه ولتدعيم سلطته. ولم ينفع احتلال تنظيم القاعدة الفلوجة وبعدها الموصل في التنبيه إلى الاحتقان الذي يعتمل في البيئة السنّية ولا نفعت انتفاضات شعبية سلمية في ست محافظات عراقية على مدى سنتين كاملتين في رفع قانون الارهاب التمييزي ولا في اثارة الاهتمام بتنمية المناطق الشمالية والشرقية. واجه المالكي تلك التحركات والانذارات بالإهمال والاتهام بالإرهاب وبالعنف. فحصد احتلال تنظيم داعش وعشائر مسلحة نحو ثلث البلاد، بما فيه قسم من موارده النفطية والمائية وطرق مواصلاته.
٥. إن تنظيم القاعدة السوري، بشقّيه، هو أيضاً نتاج الحرب العراقية تكونت خلاياه الاولى من الجهاديين الذين صدّرتهم الاستخبارات السورية الى العراق، قبل أن تتلقفهم استخبارات خليجية وإقليمية متنوعة. والأهم من ذلك أنّ داعش والنصرة السوريتين قد نمتا بسبب استمرار القتال واشتداد طابعه المذهبي، وإنتشرتا في الوسط الاجتماعي والجغرافي الطرفي والمذهبي إياه الذي مدّ داعش العراقية بمصادر قوتها. وإنه لمعبّر حقاً أنّ الادارة الأميركية، التي تذرّعت لفرض الحظر على تزويد الكتائب الاسلامية السورية «المعتدلة» بالسلاح الصاروخي المضاد للطيران بأنه يرمي إلى ألّا تقع الأسلحة المتطورة في أيدي التنظيمات «المتطرفة» لم تنته سياساتها فقط إلى حرمان المعارضة السورية من ممارسة ضغوط كافية تسمح بنجاح تسوية «جنيف» مثلاً، إذ لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الحظر ذاته سمح لسياسة «البراميل المتفجّرة» بأن تحقق من الترهيب والتهجير والقتل والمجازر بحق المدنيين ما أدّى إلى اختلال واضح لصالح قوات النظام في المدن الرئيسة وضواحيها. وهكذا تتوجت «نجاحات» سياسة عدم وقوع الاسلحة المتطورة في أيدي التنظيمات المتطرفة بموجة لجوء متصاعدة لضباط وعناصر الكتائب المعارضة «المعتدلة» الى جبهة النصرة وداعش.
٦. إن إعلان الدول والخلافات لا يعني بناء دول. فهذه الميليشيات الجهادية-التكفيرية لا تبني شيئاً. ولا تحمل قضية ولا تخدم جماعات. إنها تعبّر عن يأس أقصى. لكنها أكثر تعالياً من الأنظمة الاستبدادية على شعوبها وأقسى عقاباً. يعيش الشعب، في عينها، في جاهلية يستحق العقاب أكثر مما يستحق الخلاص.
ثم إن إعلان بناء دول عابرة للحدود بين سورية والعراق لا يعني إعادة النظر بالحدود أو امتلاك القدرة الذاتية على ذلك. وثمة فارق كبير بين التجزئة والتخلّع الداخليين، وهما الفعل المشترك بين قوى محلية وإقليمية ودولية، وبين إعادة النظر في ما يسمّى حدود «سايكس-بيكو»، التي تطبّل لها وتهدّدنا بها الأقلام والإذاعات والفضائيات. فليس ثمة ما يشير إلى أن القوى الغربية - التي كرست حدود التجزئة في المشرق العربي، بواسطة البيان الثلاثي الاميركي-البريطاني-الفرنسي العام ١٩٥١ - في معرض إعادة النظر في تلك الحدود التي هي بالدرجة الأولى حدود أمن إسرائيل وحدود حماية النفط وكياناته.
٧. بغضّ النظر عن ارتباط التنظيمات الجهادية التكفيرية بهذا النظام أو ذلك وتلك الجهة الاستخبارية او تلك، فإن وجودها ذاته يخدم بقاء الأنظمة العربية مجتمعة. لقد كان الاشتراك في «الحرب الكونية ضد الإرهاب» الواسطة التي إنضم بها غير حاكم عربي إلى الحومة الأميركية وجدّد «شرعيته» الخارجية واستدرج المساعدات المالية والعسكرية. وفي زمن الثورات العربية، يخدم وجود التنظيمات الجهادية- التكفيرية مبرراً لشيطنة شعوب بكاملها وتسويغ القمع الداخلي، وصولاً الى استخدام الأسلحة الكيماوية والإفلات من أي عقاب في «مجتمع دولي» ظالم ومنحاز وعقيم. وإنه لمعبّر حقاً أن يتقدّم وزير خارجية النظام السوري بطلب رسمي لانضمام سورية بواسطة نظام المافيا الروسية الى «الحرب العالمية ضد الإرهاب» بقيادة الولايات المتحدة الاميركية.
٨. الإسلام المعتدل ليس هو البديل. وتأكيداً ليس هو البديل الوحيد. لسببين. الأول لأن الهوية الدينية للحل أو لصاحب الحل ليست برنامجاً بذاتها. والسبب الثاني هو السؤال الذي أثارته التجربة المصرية: هل وصول الإسلام الإخواني «المعتدل» إلى السلطة بواسطة الانتخابات الرئاسية والنيابية، قطع الطريق فعلاً على نمو تيارات جهادية عنفية أم أن البيئة التي خلقها ونوع التشريعات التي سنّها وتلك التي أوحى بتطبيقها قد شجّعت قوى تريد الذهاب في شعار «الإسلام هو الحل» إلى نهاياته؟
٩. الحرب ليست هي الجواب. وليس ذلك فقط نظراً لما نشاهده من سوابق الإخفاق الدموي التدميري في أفغانستان وباكستان. ويمكن التوقع منذ الآن أن بؤر السيطرة التي أسستها داعش والنصرة في هذا الموقع السوري والعراقي أو ذاك سوف تستقطب التركيز العسكري عليها بهدف تضييق رقعتها، بواسطة سلاح الطيران الاميركي والقوى المسلحة للنظامين المعنيين، واستعادة المدن التي احتلتها وإجلائها من المناطق الحدودية بين البلدين. علماً أن هذه الإجراءات، في حال نجاحها، لن تمنع استمرار هذه البؤر المسلحة قيد الوجود والفعل لفترات من الوقت – وهذه هي تجربة اليمن دليلنا. ولن يكون لتلك البؤر، في ظل أحدية «الحرب الكونية ضد الإرهاب»، غير وظيفة تخييرنا بين استبداد متجدد واستبداد وافد. والأهم أن الحرب التي يبشّرنا القائمون بها بأن لا نهاية لها، سوف تصادر كل القضايا وتختزل كل المعالجات والسياسات وتحوّل الحاضر إلى راهن لا يتحوّل وتغتال المستقبل.
١٠. تجفيف منابع الإرهاب: في بداية «الحرب الكونية ضد الإرهاب» طرحت الإدارات الأميركية والقوى الغربية شعار تجفيف منابع الإرهاب، وقد طُبّق ذلك بالدرجة الأولى عن طريق مطاردة الموارد والمسالك المالية لتنظيم القاعدة. أما التجفيف الفعلي لمنابع الإرهاب فمجموعة من المهمات لا يزال يطمسها قرع طبول الحرب التي لا نهاية لها: الحكومات الوطنية التي تشرك الجميع في تقرير مصير المراحل الانتقالية، ومصير بلدانها، المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، بناء اقتصاديات تنتج فرص عمل لملايين الشباب الباحث عن عمل وعن أمل في المستقبل، سياسات تنمية وعدالة اجتماعية تخفف الفوارق بين الطبقات والمناطق، وأخيراً ليس آخراً: فصل الدين عن الدولة. وهو إجراء باتت وظيفته الأبرز الآن تدارك موجات من الارتداد عن الدين، بما هو دين، لا مندوحة عنها بعد ما ظهر من بشاعات وجرائم في استخدام الدين في ميادين القوة والعنف والتحكّم بحياة البشر.
١١. الرد على الإسلام السياسي بمنوعاته المختلفة يكون على الأرض لا في السماء. والجواب على عقيدة شاملة كالتي يحملها لا يكون إلا بعقائد شاملة تحيط بكل نواحي الحياة وتوجّه الممارسات. أما ما عدا ذلك ففكر وممارسات التأتأة والتلعثم وخُيلاء أشباه غُربان تحاول تقليد نقلة الحجل.
وفي هذا كلام يطول.
[اضغط/ ي هنا للإطلاع على جدول المقالات الكامل]